فصل: مسألة تفسير الشؤم في الدار والفرس:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة في الرؤيا والحلم:

وحدثنا محمد بن أحمد العتبي، عن عيسى بن دينار، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الرؤيا من الله، والحلم من الشيطان، فإذا رأى أحدكم الذي يكرهه في منامه فلينفث عن يساره ثلاث مرات ويتعوذ بالله من الشيطان الرجيم، فإنها لا تضره». قال عيسى: وقال لي ابن وهب مثل هذا، إلا أنه قال: يقول: «أعوذ بالله بما عاذت به ملائكة الله ورسوله من شر ما رأيت في منامي أن يصيبني منه شيء أكرهه في الدنيا والآخرة وليتحول على شقه الآخر».
قال محمد بن رشد: الحديث الذي ذكره موسى عن عيسى بن دينار هو في الموطأ مسند من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي قتادة بن ربعي أنه سمع النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ يقول: «الرؤيا الصالحة من الله». الحديث. فزاد فيه الصالحة. وهو يبين ما في الحديث. والمعنى فيه أن الرؤيا الصالحة وهي الحسنة التي تبشر بالخير في الدنيا وفي الآخرة، لا مدخل فيها للشيطان. وهي من الله جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوءة، إذا رآها الرجل الصالح. وروي من خمسة وأربعين جزءا، وروي من سبعين جزءا. والمعنى في هذه التجزئة، أن ما يصاب في تأويله من هذه الرؤيا التي هي على الصفة المذكورة، يتخرج على ما يعبر به مما يخطأ في تأويله. فلا تخرج على ما يعبر يكون جزءا من خمسة وأربعين أو من ستة وأربعين أو من سبعين، إذ لو خرجت كلها على ما تعبر لكانت كالنبوءة في الإخبار بالمغيبات. وهذا هو الفرق بين الأنبياء وبين رؤيا سائر الناس؛ لأن رؤيا سائر الناس قد يخطأ في تأويلها فلا تخرج على ما تعبر. وقد يصاب في تأويلها فتخرج على ما تعبر. وما يصاب في تأويله منها هو الجزء من النبوءة، لكونه في معنى النبوءة. فالرؤية الصالحة المبشرة من الله عز وجل، جزء من الأجزاء المذكورة في الحديث، إن كانت من الرجل الصالح، وإن لم تكن من الرجل الصالح فلا يقال فيها، وإن كانت من الله عز وجل، إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا من النبوءة، ولا من ستة وأربعين، ولا من سبعين. والرؤيا المكروهة تنقسم على قسمين: منها رؤيا من الله عز وجل، قد يصاب في تعبيرها فتخرج على ما يعبر به، وقد يخطأ في تعبيرها فلا تخرج على ما تعبر به، ولا يقال فيها أيضا: إنها جزء من خمسة وأربعين جزءا ولا من ستة وأربعين ولا من سبعين. ومنها حلم من قبل الشيطان، يحزن به الإنسان لا يضر رائيه، فأمر الرجل إذا رأى في منامه ما يكرهه أن يستعيذ بالله من شر ما رأى، فإذا فعل ذلك موقنا بما روي في ذلك لم يضره ما رأى، أو المعنى في ذلك أن الله لا يوفقه للاستعاذة مما رأى إلا بيقين صحيح، إلا فيما هو من تحزين الشيطان، وفيما هو بخلاف ما تأوله مما كره. وقد يصرف الله عنه ما كرهه مما رآه في منامه، وإن كان من الله، بالاستعاذة منه، كما يصرف عنه سوء القدر بالدعاء الذي سبق في علمه أنه يصرف به على ما تقدم القول فيه قبل هذا الرسم، وبالله التوفيق.
تم الجزء الثاني من الجامع بحمد الله.

.كتاب الجامع الثالث:

.الكلام بعد طلوع الفجر:

ومن كتاب أوله اغتسل على غير نية في الكلام بعد طلوع الفجر:
قال مالك: حدثني أبو النصر مولى عمر بن عبيد الله عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة زوج النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ «أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ كان يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة، ثم ينصرف، قالت: فإن كنت يقظانة حدثني، وإن كنت نائمة اضطجع حتى يأتيه المؤذن، وذلك بعد طلوع الفجر». قال: وقد كان سالم بن عبد الله يتحدث بعد الفجر، قال: ولم أدرك الناس إلا على ذلك. قال ابن القاسم: ورأيت مالكا يفعل ذلك.
قال محمد بن رشد: هذا كله في كتاب الصلاة الثاني من المدونة وزاد فيها قال: وإنما يكره الكلام بعد صلاة الصبح، ولقد رأيت نافعا مولى ابن عمر، وموسى بن ميسرة، وسعيد بن أبي هند يجلسون بعد أن يصلوا الصبح، فيتفرقون للركوع، وما يكلم أحد منهم صاحبه، يريد بذلك، اشتغالا بذكر الله، فأجاز مالك الكلام بعد الفجر، إلى صلاة الصبح، اتباعا لحديث عائشة، وكره الكلام بعد صلاة الصبح إلى طلوع الشمس، أو قرب طلوعها. وأهل العراق على ضد هذا، يكرهون الكلام بعد طلوع الفجر إلى صلاة الصبح، ولا بأس بالكلام عندهم بعدها. قال أحمد بن خالد: والسنة ترد ما قالوه، وما قاله مالك من حديث عائشة يرد قول أهل العراق. وما روي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من «أنه كان إذا صلى الصبح حول وجهه إلى الناس وقال: هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا» وبالله التوفيق.

.مسألة تفضيل عمررضي الله عنه لركبة على الشام:

في تفضيل عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لركبة على الشام وقال في تفسير قول عمر: بيت بركبة خير من عشرة أبيات بالشام. قال مالك: يريد بذلك الوباء بالشام وصحة ركبة.
قال محمد بن رشد: ركبة موضع بين الطائف ومكة، في طريق العراق، قاله ابن وضاح. وقال غيره: ركبة واد من أودية الطائف. وتفسير مالك للحديث صحيح. والمعنى فيه أن الأمراض تقل بركبة. وتطول أعمار أهلها بها في الغالب من أحوالهم، بخلاف الشام، التي ينتابها الوباء وتكثر فيها الأمراض بعادة أجراها الله في البلدين مع اختلاف الهواء فيهما، لا أن في ذلك للهواء تأثيرا. ولم ينكر قول القائل من الحكماء: هواء بلد كذا جيد مصح للأجسام. وهواء بلد كذا فاسد مولد للأمراض؛ لأن ذلك عندهم مجاز، ليس على ظاهره من الحقيقة؛ لأن الهواء لا يصح الجسم، ولا يولد فيه مرضا بحال، والفاعل لذلك كله إنما الله عز وجل، لكنه تعالى أجرى ما يفعله من ذلك كله على عوائد أمره عليها، فلما وجدت بلدان على مر الدهور والأزمان، يختلف هواؤها ويختلف أحوال أهلها فيها بالصحة والمرض على وتيرة واحدة، نسب إلى هواء كل بلد حال أهله من الصحة والسقم، مجازا على غير حقيقة. هذا هو الواجب اعتقاده في هذا، وما عداه كفر. والحديث عن عمر في الجامع من الموطأ، وقد روي عنه أنه قال: لأن أعمل عشر خطايا بركبة، أحب إلي من أن أعمل واحدة بمكة. والمعنى في هذا تفضيل مكة على ركبة، بأن السيئات تضاعف فيها، كما تضاعف فيها الحسنات، وقد رأى بعض العلماء تغليظ الدية في الجراح والنفس في البلد الحرام والشهر الحرام. وبالله التوفيق.

.مسألة استتابة القدرية:

في استتابة القدرية قال مالك في القدرية: إن لم يتوبوا أرى أن يقتلوا.
قال محمد بن رشد: قول مالك في القدرية: إنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا. كما يفعل بالمرتدين، يدل على أنه كفرهم بما يدينون به من اعتقادهم. وقد مضى الكلام على هذا مستوفى في أول رسم من سماع ابن القاسم من كتاب المرتدين والمحاربين. وفي رسم يريد من سماع عيسى منه، فمن أراد الوقوف على الشفاء من ذلك تأمله هناك، وبالله التوفيق.

.مسألة ما جاء من اختتان إبراهيم صلى الله عليه بالقدوم:

فيما جاء من اختتان إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بالقدوم قال: وسمعت مالكا يحدث، قال: «اختتن إبراهيم بالقدوم على رأس عشرين ومائة سنة. وبقي بعد ذلك ثمانين سنة».
قال محمد بن رشد: قد روي هذا الحديث عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة، عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ. فمن الرواة من أوقفه على سعيد بن المسيب، ومنهم من أوقفه على أبي هريرة، ومنهم من أسنده إلى النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، وهو الصحيح؛ لأن مثله لا يكون رأيا. وقد روى أبو هريرة عن النبي صلى الله غليه وسلم أنه قال: اختتن إبراهيم بعد ما مرت عليه ثمانون سنة، واختتن بالقدوم. والقدوم موضع، وقيل فيه: إنه الحديدة التي اختتن بها. روي عن عكرمة أنه قال: ختن نفسه بالفاس فصرف بصره عن عورته أن ينظر إليها. قال: فلم يطف بالبيت بعد على ملة إبراهيم إلا مختونا. والمعنى في صرفه بصره عن عورته، أنه فعل ذلك تكرما إذ لا حرج على الرجل في النظر إلى عورته. والختان طهرة الإسلام. روي عن المسيب بن رافع أنه قال: أوحى الله إلى إبراهيم أن تطهر فتوضأ، فأوحى الله أن تطهر فاغتسل، فأوحى الله إليه أن تطهر، فاختتن. فصار الختان من ملته وشريعته التي أمر الله نبيه عَلَيْهِ السَّلَامُ بالتزامها حيث يقول: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78]. أي الزموها. {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الحج: 78]. الآية. روي عن ابن عباس أنه قال: الأقلف لا تؤكل له ذبيحة، ولا تقبل له صلاة، ولا تجوز شهادته. وروى أبو بردة عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الأقلف: «أنه لا يحج بيت الله حتى يختتن». وفي الحديث من الفقه وجوب الختان على من أسلم كبيرا. فروي عن مالك أنه كان يرخص بذلك للشيخ الكبير، ولا يرى بإمامته بأسا، ولا بشهادته وذبيحته وحجه. وقال محمد بن عبد الحكم: إذا ضعف وخاف على نفسه، كان له أن يترك الختان. وقال سحنون: ليس له أن يتركه، وإن خاف على نفسه منه. ألا ترى أن الذي يجب عليه قطع يده، لا يترك عنه ذلك، وإن خيف عليه منه. وحد الختان عند مالك، إذا أدب على الصلاة ابن عشر سنين ونحوها. وكره الختان يوم السابع. قال: لأنه فعل اليهود. وروي أن إبراهيم عليه السلام ختن ابنه إسماعيل لثلاث عشرة سنة، وإسحاق لسبعة أيام. وأنه كان بين ختان إسماعيل ومولد إسحاق سنة. وأما الخفاض للنساء، فإنه مكرمة للنساء، وكان أول ذلك ما روي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ في حديث سارة مع الملك. قال فيه: فوهب لها هاجر فخدمتها ما شاء الله، ثم إنها غضبت عليها ذات يوم فحلفت لتغيرن منها ثلاثة أشياء. فقال إبراهيم لها: تخفضينها وتشقين أذنيها، واختلف فيمن ولد مختونا فقيل: تمر الموسى عليه، فإن كان فيه ما يقطع قطع، وقيل قد كفي المؤنة فيه. وهو الأظهر إن شاء الله.

.مسألة الشرب في القدح المضبب بالفضة:

في الشرب في القدح المضبب بالفضة وسئل مالك عن الرجل يشرب في القدح وفيه تضبيب ورق أو حلقة من ورق. قال: لا أحب الشرب فيه.
قال محمد بن رشد: قياس القدح المضبب بالفضة، أو الذي يكون فيه الحلقة من الفضة، قياس الثوب يكون فيه العلم من الحرير. وقد مضى هذا في رسم حلف ألا يبيع سلعة سماها قبل هذا.

.مسألة الشرب في نفس واحد:

في الشرب في نفس واحد قال مالك في حديث النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: إني لا أروى من نفس واحد، فقال له النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «فأبن القدح عن فيك»، وإني لا أرى بالشرب من نفس واحد بأسا، وأرى فيه رخصة لموضع الحديث. إني لا أروى من نفس واحد.
قال محمد بن رشد: استدلال مالك بالحديث على إجازة الشرب في نفس واحد بين واضح؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما نهى عن النفخ في الشراب فقال له الرجل: إني لا أروى من نفس واحد قال له: «فأبن القدح عن فيك ثم تنفس» ومعناه: فإن كنت لا تقدر على ذلك فأبن القدح عن فيك ثم تنفس. وفي ذلك دليل ظاهر على أنه إن قدر على ذلك جاز له أن يفعله. والنظر يدل على جواز ذلك أيضا؛ لأن النهي إنما جاء عن النفخ في الإناء أو التنفس فيه. روي عن ابن عباس قال: «نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ أن ينفخ في الإناء أو يتنفس فيه». وعن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يتنفس أحدكم في الإناء إذا كان يشرب. ولكن إذا أراد أن يتنفس فليؤخره عنه ثم يتنفس». فإذا لم يتنفس في الإناء جاز له أن يشرب كيف شاء، إن شاء في نفس واحد، وإن شاء في نفسين. وهو قول عمر بن عبد العزيز. روي عن ميمون بن مهران أنه قال: رآني عمر بن عبد العزيز وأنا أشرب، فجعلت أقطع شرابي وأتنفس. فقال: إنما نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن تنفس في الإناء، فإذا لم تنفس فيه فاشربه إن شئت في نفس واحد. وقوله عين الفقه، وهو قول سعيد بن المسيب، وعطاء بن أبي رباح عن جماعة من السلف، أنهم كرهوا ذلك، منهم ابن عباس وطاوس وعكرمة. قالوا: الشرب من نفس واحد شرب الشيطان، وبالله التوفيق.

.مسألة كسر معاصر الخمر:

في كسر معاصر الخمر قال مالك: بلغني أن عمر بن عبد العزيز بعث في كسر معاصر الخمر، فكسرت أو كسر بعضها. قال مالك: قد تكون أشياء فيها رخص، من تركها غير محرم لها فلا أرى به بأسا.
قال محمد بن رشد: ما بلغ مالكا من أن عمر بن عبد العزيز بعث في كسر معاصر الخمر معناه: في معاصر المسلمين، لا في معاصر أهل الذمة. قاله مالك في رسم المحرم من سماع ابن القاسم من كتاب السلطان. وهو صحيح؛ لأن أهل الذمة إنما بذلوا الجزية على أن يقروا في ذمتهم على ما يجوز لهم في دينهم، فلا يمنعون من عصر الخمر إذا لم يظهروها في جماعة المسلمين. وقوله أو كسر بعضها معناه: أنه ترك منها ما لم يتهم صاحبه على أنه إنما يعصر الخمر فيها ليشربها أو ليبيعها، لاحتمال أن يكون إنما يعصرها فيها ليخللها أو ليبيعها. وقول مالك قد تكون أشياء فيها رخص من تركها غير محرم لها فلا أرى به بأسا. كلام فيه نظر؛ لأن من ترك الرخص وتجنبها فقد أخذ بالاحتياط لنفسه، وذلك نهاية الورع، فلا يقال في مثل هذا: إنه لا بأس به، وإنما يقال فيه: إنه قد أتى ما يستحب له، فينبغي أن يتأول الكلام على أن فيه إضمارا، فيكون معناه من تركها غير محرم لها فقد أحسن لأنه مأجور على ذلك، ومن أتاها فلا بأس به أي لا إثم عليه في ذلك، وذلك في مثل أن يعصر الرجل الخمر ليجعلها خلا فلا بأس بذلك، إذ قد رخص فيه من أباحه، ومن لم يأخذ بالرخصة في ذلك فقد أحسن. وإلى هذا الوجه من الرخص ذهب مالك- والله أعلم- في قوله: وقد تكون أشياء بما دل عليه من جواز المسألة، وقد ذكرنا في كتاب الأشربة من المقدمات حكم تخليل الخمر وتخللها مستوفى لمن أراد الوقوف عليه.

.مسألة حكم أكل الضب:

في أكل الضب قال: وسئل مالك عن أكل الضب فقال: لا أرى بأكله بأسا.
قال محمد بن رشد: قوله: لا أرى في أكله بأسا، معناه مباح لا إثم في أكله. ولا جزاء في تركه. وقوله صحيح، للأحاديث الواردة فيه، منها حديث عبد الله بن عمر في الموطأ «أن رجلا نادى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ فقال يا رسول الله: ما ترى في الضب، فقال رسول الله صلى الله عليه: لست بآكله ولا محرمه» وإنما لم يأكله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأنه عافه.، إذ لم يكن بأرض قومه، على ما جاء من «أن عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد دخلا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيت ميمونة، زوج النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ، فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، فلما أخبر أنه ضب، رفع يده. فقال له خالد بن الوليد: أحرام يا رسول الله؟ فقال: لا، ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه. قال خالد: فاجتررته فأكلته، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ينظر». لما نص النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في هذا الحديث على أنه ليس بحرام وأخبر بالعلة التي من أجلها رفع يده ولم يأكله، مع أنه مباح ليس بمحرم ولا مكروه، وقد كره أكله جماعة من العلماء، لما روي عن ثابت بن وديعة قال: «كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جيش، فأصبنا به ضبابا. قال: فشريت منها ضبا وأتيت رسول الله فوضعته بين يديه، قال: فأخذ عودا فعد به أصابعه فقال: إن بني آدم مسخت دواب في الأرض، ولا أدري أي الدواب هي؟ قال: فلم يأكل ولم ينه». وإذا لم يأكله مخافة أن يكون مسخا فهو مكروه. من تركه أجر، ومن أكله لم يأثم. وقد روى ابن مسعود عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ ما يبطل هذه العلة. وذلك أنه «سئل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن القردة والخنازير، أهم من نسل الذين مسخوا؟ فقال: إن الله لم يهلك قوما أو لم يمسخ قوما فيجعل لهم عاقبة ولا نسلا، ولكنهم من شيء كان قبل ذلك» وليس هذان الحديثان بمتعارضين.. والمعنى فيهما- والله أعلم- أن ما أخبر به النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في حديث ابن مسعود من أن المسوخ لم يكن لها نسل، متأخر عما جاء عنه في حديث ثابت ابن وديعة، من أنه شك في الضب، وخشي أن يكون من المسوخ، فعلم آخرا ما شك فيه أولا. وهذا يقضي بأنه لا كراهية في أكل الضب، وأنه من الجائز المباح. فمن كرهه لم يبلغه حديث ابن مسعود. والله أعلم. إذ لا يصح أن يحمل الحديثان على التعارض.

.مسألة تفسير الفدادين:

في تفسير الفدادين وسئل مالك عن تفسير الفدادين قال: هم أهل الجفا.
قال محمد بن رشد: قد مضى هذا التفسير لمالك في رسم حلف، وهو تفسير صحيح، وبالله التوفيق.

.مسألة يمر بالحوائط هل يأكل من فاكهتها:

في الذي يمر بالحوائط هل يأكل من فاكهتها؟ وسئل مالك عن الأعناب والفاكهة التي في الأجنة يمر بها الناس، مثل فواكه الشام ومصر، قال: لا أحب لأحد أن يأكلها. قيل له: فإن أجراءها يطعمون الناس منها. قال: لا أحب لكم أن تأكلوه. ثم قال: أرأيت رجلا مر براعي غنم ليست له، أله أن يبتاع منها؟ وقد مر ابن عمر على راع معه غنم، فسأله: ألك هذه الغنم؟ فقال: لا. فقال: ابتعني من هذه الغنم، فقال: ليست لي فقال له ابن عمر: بلى فبعني وما علم أربابها. قال: فأين الله؟ قال: فأعجب ذلك ابن عمر. فسأل عنه حتى اشتراه فأعتقه. وإن في حديث الابن عن النبي عليه السلام ما فيه عبرة، وهو أهون على أهله من فواكههم. وإنما ذكرنا هذا لهذا.
قال محمد بن رشد: لم ير مالك لرجل إذا مر بجنان غيره أن يأكل من ثمره، وكذلك إذا مر بجنان أبيه أو أمه أو أخيه على ما يأتي له في صدر سماع أشهب بعد هذا. وإن أذن له في ذلك أجيره وأطعمه إياه؛ لأن الأجير لم يؤذن له بذلك. واستدل على ذلك بما ذكره من أن الرجل إذا مر براعي غنم لا يجوز له أن يشتري شيئا منها. واختلف هل يصدقه أولا يصدقه إذا زعم أنه أذن له في ذلك، أو كان ممن يشبه أن يؤذن له فيه؟ فقيل: إنه يصدقه إذا زعم أنه أذن له في ذلك، وكان ممن يشبه أن يؤذن له فيه. وهو قول مالك في أول رسم من سماع أشهب من كتاب الضحايا. وقيل: إنه لا يصدقه وهو ظاهر ما في سماع أشهب من كتاب المديان والتفليس. واعتبر في المنع من أن يأكل الرجل من ثمار ما مر به من الحوائط بحديث النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في الابن الذي أشار إليه، وهو قوله في حديث عبد الله بن عمر في الموطأ: «لا يحتلبن أحد ماشية أحد بغير إذنه، أيحب أحدكم أن تؤتى مشربته فتكسر خزانته، فينتقل طعامه؟، وإنما تخزن لهم ضروع مواشيهم أطعماتهم، فلا يحتلبن أحد ماشية أحد إلا بإذنه». وهو اعتبار صحيح؛ لأنه إذا لم يجز أن تحتلب ماشيته إلا بإذنه، واللبن يعود في الضروع كل يوم، فأحرى ألا يكون له أن يأكل من ثمر حائطه. وهو إنما يأتي من عام إلى عام. ومن الحجة له قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقول النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لا يحل مال امرئ مسلم بغير طيب نفس منه» وقد فرق بين اللبن والثمار بأن اللبن مختزن في الضروع، فهو بمنزلة ما اختزن من الثمار في البيوت. وقال في الرواية في الثمار: لا أحب لأحد أن يأكلها، ولم يقل لا يحل ذلك له، وإن كان عنده لا يجوز له إلا عند الضرورة التي تبيح له أكل الميتة إذا أمن أن يعد سارقا على ما قاله في موطاه؛ لأن أهل العلم قد اختلفوا في إجازة ذلك للآثار الواردة فيه. منها حديث عبيد الله ابن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «من دخل حائطا فأكل منه فلا يتخذ خبنة». ومنها حديث سمرة بن جندب، أن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ قال: «إذا أتى أحدكم على ماشية، فإن كان فيها صاحبها فليستأذنه، فإذا أذن له فليحتلب وليشرب، وإن لم يكن فيها أحد فليصوت ثلاثا، فإن أجابه أحد فليستأذنه، فإن لم يجبه أحد فليشرب ولا يحمل»، ولا حجة في شيء من هذه الآثار إلى مالك؛ لأن الحديث الأول قد ذكر فيه الحاجة، والحديث الثاني والثالث، يحتمل أن يكون المعنى فيهما في ذي الحاجة، كما في الحديث الأول. وقد حمل هذين الحديثين على ظاهرهما جماعة من أهل العلم عن أبي زينب قال: صحبت عبد الرحمن بن سمرة وأنس بن مالك، وأبا بردة في سفر، فكانوا يصيبون من الثمار. وقال الحسن: يأكل، ولا يفسد، ولا يحمل. وروي عن عمر بن الخطاب مثل ذلك في أموال أهل الذمة وغيرهم. وذلك خلاف ما ذكرناه من مذهب مالك، أنه لا يأكل إلا أن يحتاج. قال ابن وهب عنه: فإن دخل الحائط فوجد الثمر ساقطا فلا يأكل منه، إلا أن يحتاج، أو يعلم أن صاحبه طيب النفس به، يريد لصداقة بينهما، والله أعلم. فقد ذكر حارث بن مسكين قال: سمعت أشهب بن عبد العزيز يقول: خرجنا مرابطين إلي الإسكندرية، فمررنا بجنان الليث بن سعد، فأكلنا من الثمر، فلما رجعت دعتني نفسي إلى أن أستحل ذلك من الليث، فدخلت إليه فقلت: يا أبا الحارث إنا خرجنا مرابطين، ومررنا بجنانك، فأكلنا من الثمر، فأحببنا أن تجعلنا في حل، فقال الليث: يا ابن أخي لقد نسكت نسكا أعجميا. أما سمعت الله يقول: {أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا} [النور: 61]: فلا بأس أن يأكل الرجل من مال أخيه الشيء التافه الذي يسره بذلك. ومن أهل العلم من لم يجز له أن يأكل شيئا، وإن كان صديقا له إلا بإذنه. وهو مذهب مالك،- لأنه إذا لم يجز ذلك، وإن كان أباه أو أمه أو أخاه، فأحرى ألا يجيز ذلك إن كان صديقا. فيتحصل في المسألة إذ لم يحتج ثلاثة أقوال: الجواز، والمنع، والفرق بين الصديق وغيره. وهو أعدل الأقوال، وأولاها بالصواب. وهذا في ثمر الحائط، دون لبن الماشية؛ لحديث عبد الله بن عمر في الموطأ في لبن الماشية. وقيل: بل ذلك في لبن الماشية وفي ثمر الحائط سواء، لحديث سمرة بن جندب الذي ذكرناه. وأما إذا احتاج فلا اختلاف في أنه يجوز له أن يأكل من ثمر الحائط الذي يمر به، ويحتلب من لبن الغنم الذي يمر بها ما يرد به جوعه من ذلك كله. وبالله تعالى التوفيق..

.مسألة الدؤابة للصبيان:

في الدؤابة للصبيان قال مالك: أكره الدؤابة للصبيان، وأن يترك بعض رأسه ويحلق بعضها.
قال محمد بن رشد: الدوابة للصبيان هي الناصية تترك في بعض رأس الصبي، ويحلق سائره، فكره ذلك لما جاء من أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «نهى عن القزع». وهو حلق بعض الرأس دون بعض. فعم ولم يخص صغيرا من كبير. وكذلك كره في رسم الجامع من سماع أشهب من كتاب السلطان القصة والقفا للصبيان لهذا الحديث. وقال: إن كانوا يريدون أن يدعوا شعره كله فليدعوه، وإن كانوا يريدون أن يحلقوه كله فليحلقوه. وقد كاتبت في ذلك بعض الأمراء وأمرته أن ينهى عنه، فسئل عن القصة وحدها بلا قفا فقال مثل ما قال في القصة والقفا.
وقد مضى الكلام على ذلك هناك مستوفى، وبالله التوفيق.

.مسألة تفسير الشؤم في الدار والفرس:

في الشؤم في الدار والفرس وسئل مالك عن تفسير الشؤم في الدار والفرس قال: ذلك فيما نرى: كم من دار سكنها ناس فهلكوا ثم سكنها آخرون فهلكوا، ثم سكنها آخرون فهلكوا، وهذا تفسيره فيما نرى، والله أعلم.
قال محمد بن رشد: قوله سئل عن تفسير الشؤم في الدار والفرس معناه: سئل عن الشؤم الذي جاء الحديث أنه في الدار والفرس ما هو؟ والمروي في ذلك عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ حديثان في جامع الموطأ: أحدهما قوله: «إن كان ففي الفرس والمرأة والمسكن» يعني الشؤم. والثاني قوله: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وليس ذلك بتعارض بين الحديثين. والمعنى فيهما أنه قال في الأول منهما: إن كان قبل أن يعلم أن ذلك يكون، فلما علم بإعلام الله له، إذ لا ينطق عن الهوى أن ذلك يكون، قال: «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» وفسر مالك الشؤم بما قد فسره به مما يصيب ساكن بعض الدور في أغلب الأحوال، من الهلاك وشبهه ومعناه، بعادة أجراها الله من غير أن يكون للدار في ذلك تأثير، أو عدوى، وقد ذهب بعض الناس إلى أن حديث النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ في «الشؤم في الدار والمرأة والفرس» يعارضه ما جاء عنه من أنه قال: «لا عدوى ولا طيرة». وضعف حديث الشؤم لما روي من «أن عائشة أنكرت على أبي هريرة حديثه عن النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ أنه قال: الطيرة في المرأة والدار والدابة، وأقسمت أنه ما قاله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قط. وإنما كان أهل الجاهلية يقولونه. ثم قرأت: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22]» ومنهم من صحح الحديث وتأوله على أن معنى الشؤم في الدار، سوء الجوار، وفي المرأة سوء خلقها. والذي أقول به: إنه لا تعارض بين الحديثين؛ لأن المعنى الذي أوجبه في أحدهما غير المعنى الذي نفاه في الأخرى. نفى في الحديث الواحد أن يكون لشيء من الأشياء عدوى في شيء من الأشياء أو تأثير فيه بقوله: «لا عدوى ولا طيرة»، إذ لا فاعل في الحديث سوى الله عز وجل. وأعلم في الحديث الأخر أنه قد يوجد الشؤم في الدار والمرأة والفرس، وهو تكرر الأذى على ساكن بعض الدور، أو نكاح بعض النساء، أو اتخاذ بعض الخيل بقضاء الله وقدره السابق على ما أخبر به في كتابه حيث يقول: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} [الحديد: 22].... الآية. وفي الفرس ركوبه فيما لا ينبغي ركوبه فيه، لا بعدوى في شيء من ذلك إلى شيء ولا تأثير له فيه، فلم ينف النبي عَلَيْهِ السَّلَامُ بقوله «لا عدوى» وجود ما هو موجود مما يعتدي، وإنما بقي أن يكون شيء من الأشياء يعدي على ما يعتقده أهل الجاهلية والجهالة بالله. ألا ترى إلى ما جاء في الحديث الصحيح من قوله: «لا عدوى ولا هام ولا صفر، ولا يحل الممرض على المصح وليحلل المصح حيث شاء، قالوا: يا رسول الله وما ذاك؟ فقال رسول الله: إنه أذى» فنفى أن يكون لشيء عدوى، ونهى أن يحل الممرض على المصح؛ لأنه أذى، أي لأنه قد يتأذى بذلك على ما هو موجود من جري العادة في ذلك، من فعل الله وقدره السابق. ويبين هذا الذي ذكرناه، حديث أبي هريرة «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا عدوى ولا هامة ولا صفر. فقام أعرابي فقال يا رسول الله: إن الإبل تكون في الرمل كأنها الظباء، فيرد عليها البعير الجرب فتجرب كلها. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فمن أعدى الأول؟» وبالله التوفيق.